اليوسفي: إذا رأيتم الجمال فكبّروا…!
نصُبٌ نحنُ للمنايا تخطئنا مرارا، فإذا قرْطست أصابت فأصْمتْ، وأسعدُنا من كان عاقلا، فلم يكن عنها غافلا، فلا تنوشُه إلا وقد تأهب لها بسعْيه، على وِزان وُسْعه.
عرفتُ العلامة اليوسفي ريّانا من الذكر بَليلَ اللسان به، سليما صدرُه من نوازع الشر ونوازغ الفتنة، مرْتاضا على البِشْر وإن أخطأه السعد، حلو الدعابة، يلقى من يأنسُ به ويخفّ على نفْسه فيبادرُه بالتكبير مردفا: إذا رأيتم الجمال فكبروا!.
وهلْ كان الرجل لمن لا يعرفه إلا نُصْبا للسعادة، وأيقونةً للفرح؟!، ولو اطلعوا من خاصّ أحواله على اليسير بأخَرَة، لعلموا أن جلادتَه في الحق، وإِلْفه لموافقة الناس، وإشفاقَه من أن يلقاهم بما يكرهون، أبَتْ عليه إلا أن يبتهج بمحضرهم وهو محزون، ويقتنصَ النكتة الشاردةَ واللطيفةَ المسْتعْصِمة وهو مكروب، ويتحرّج عن إبرام الناس بالشكوى، وقد تحقق بقوْل مولاه: ﴿إنما أشكو بثي وحزني إلى الله﴾، لكنْ قد تندّ عنه لماماً نفثاتٌ للخُلّص من أصحابه، كنَدِيف الغيم في سماء يوْمٍ صحو، ثم يعودُ إلى ما اعْتاده من البشر:
“ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة:
يواسيك، أو يسليك، أو يتوجع”
وملَكَ عليه شغاف قلبه في حميّا شبابه، عَلَمان كان شديدَ اللّهَج بهما -جمعتْهما مراكش: ألقى بها أحدُهما عصا التّسْيار، ونِيطتْ بها على الآخر تمائمُه- صحب الأوّلَ منهما أوانَ الطلب، وأدارَ عليه بعض كتبه وبحوثه، وترقّتْ وشيجتُه به حتى كان يغشاه في مرْقده بضاحية القصبة ويتردّدُ عليه تردد الصاحب الحيّ، وتلازَما في الاستجابة الشرطية عند المراكشيين، إلى القدْر الذي صار فيه السّهيلي محيلا على اليوسفي مُستدْعيا له[1]. وأمّا الثاني، فأبو الحسن الحرالّي، وكان يُهْرع إلى الثناء عليه كلما سيق ذكرُ أعلامِ حاضرتنا، متندّراً بما كان يلْقاه من كريمة، مُعْلياً من شأن دقائقه ورقائقِه في المفتاح وعروته، ولا أعلم لـمَ كنتُ أحْدسُ في كل مرة أسمع منه ذلك، أنّه كأنما يحدّثني عن نفسه!.
وقد عرفتُ رائقَ بيانه قبل تحقّقي برسمه، حين صفحت سنة 1998 بعض ما كتب في دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية -وأنا طالبٌ بها يومئذ-: “الإمام السهيلي ودراسة كتابه: التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام (نوقش بتاريخ: 20/06/1991)، فلما لقيته أخْنى خلُقُه على بيانه، فصار هذا أدْنى خِلاله، وأيْسرَ إدلاله.
ولئن كان خفضُ الجانب من فئامٍ عريضة من الناس، تدثّراً بلباس المسكنة طلباً للعافية، وضعْفَ مُنّةٍ في الغالب: لقد كان الشيخُ اليوسفي بريئاً من ذلك، لا جرمَ أنّ لطفه وتواضعه طبَعيٌّ “غيْر مجلوب”، على حدّ ما قال أبو الطيب.
ومن بابة ’’إنكار ذاته‘‘، أن هيئة علميةً علّقت طبع أحدِ كتبه منذ سنوات على تزكيةٍ خطية من اثنين تسوغُ تزكيتهما في الأعراف الأكاديمية -هكذا قدّروا-، فرآني أحدَهما، فلا تسلْ عما حزبني من ذلك، وسعيتُ حينها إلى التنصّل فلم يسعف، وأخذني أفْكلُ حين رمت الكتابة، فقد خشيت مصارع الأقلام حين ترعف في غير الجادة، بكلمة لا تلقي لها بالا، لكنها في خلد اليوسفي جارحة حارقة، والكلام عن العلماء شديد، فكتبت ما تهيّأ لي بعد أن أخذت عليه أغلظ الأيمان ألّا يحملَ ما قد يبدو له منه إلّا على الأرشد والأسلم، تأسيساً على أن العبرة بالمقاصد والمعاني، فكان مما رسمتُ حينها[2]: “فضيلة الأستاذ العلامة د. محمد اليوسفي أحد وجوه العلم المسْفرة في مراكش، بما يحتجنه صدره من حقائق العلم، وما تخطه أنامله من بديع أسفاره، وما تبديه أخلاقه من كريم النحيزة وعراقة المحتد، إلى ما يزينه من خلق زاكٍ قلّ مُبَاريه فيه. وقد كتب كتبا عمّ النفع بها، وآثرُها عندي وأحقُّها بالتقديم وأحراها بالاحتفال كتابه القيم: ’’الإمام أبو القاسم السهيلي وتراثه العلمي: مساهمة في التأصيل‘‘؛ وهو وفاء متعين منه لمراكش وأعلامها، أداره باقتدار على أبي زيد السهيلي وآثاره، فجاء عملا حفيلا جليلا يقتعد من الأوضاع عن السهيلي الصّدْر، ويأخذ باللّبّة، ويرفع الرأس به قطّان المدينة الحمراء من أهل العلم، وهو حريّ بالطبع المجدد، ليعم النفع بذلك، جزى الله خيرا القائمين على ذلك…
وليس كلام مثلي في هاته البابة شهادة بمعناها المعتبر؛ كلا، فما تستقيم من الأدنى فيمن هو أمْثلُ منه، ولكني دُعيتُ فأجبت…وحاصل الأمر أن الأستاذ اليوسفي من المعارف، وما يُبْديه من أعمال كلها قَمِنٌ بالاحتفاء، محلّىً بميسم النفع والزكاء”. اهـ المقصود منه.
وقد بقي عليّ من حق الفقيد أن أنبّه إلى أنه أتمّ تحقيق “شرح آية الوصية” لأبي زيد على نسخ شتى، دللتُه على بعضها لأول اشتغاله به، ولم أزلْ أستخبرُه عنه، حتى أسرّ إلي أنه نفض يده من تصحيح نصّه والتعليق على قضاياه، ولست أدري أكتب مقدمته أم لا، وأنا أضنّ به عن أن تناله يد الإهمال، فلعل أسرته الكريمة تمكّن القيمين من طبعه؛ جعله الله من بِيضِ صنائعه، صدقةً جارية يلحقه أجرها، ويعمّ الناس نفعها.
وليست هاته الكلمات على ضعف الجدا ورثاثة الحوْك، من قاموس المناقبية الغالية على نمط التقديس الهوميروسي، أو الترجمةِ على نسق كتب الطبقات، ولكنها نفثاتُ اليراع، تقضي أو تكاد حقَّ فؤاد منصدعٍ بتواري الصالحين…وهل نرْثي حين نزعم ذلك سوى أنفسنا، وهل هي إلا “نفسٌ تساقط أنفسا”؟؛ إنّ موت الآخرين مرايا لبعْدٍ آخر تنقضي فيه آجالُنا، فرحماك اللهم…
رحم الله اليوسفي، ونفعه بسلامة صدره، وحسن خلقه، وكثرة ذكره، وبراءة يده من الأذى، وجعل الفردوس الأعلى كفاء ما ابتلي فصبر. اللهم اخلفه في أهله، وأعل من ذكره، وإني على فراقه لمحزون.
[1] – كانت الرابطة المحمدية للعلماء قد انتدبتني لأول أمرها لإنجاز كتاب تعريفي وسط عن أبي القاسم السهيلي، فاعتذرت حينها محيلا على الفقيد رحمه الله، تعلة أن ذلك مني لو وقع تسوّرٌ على رجلٍ له قدْرُه ومكانه.
[2] – بتاريخ: 09-03-2019.
حين يتحدث الكبار عن الكبار.
رحمة الله عليه، وجعلكم الله خلفا يسد الكوة ويحمل اللواء
رحمة الله عليه.. وحفظكم الله أستاذنا على هذا البيان.. نسأل الله أن يرزقنا سلامة الصدر
رحم الله اليوسفي وحفظ الطبراني.. ورزقنا سلام الصدر..
أين أجد تحقيق الدكتور لمغازي السير جزاكم الله خيرا؟
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاكم الله خير أستاذنا